حينما يقترب يوم ٢٦ يوليو من كل عام، تستعيد ذاكرتى وقائع ذلك اليوم عام ١٩٥٢، حيث بدأت قبل ثلاثة أيام عطلتى الصيفية فى الإسكندرية، قادماً، من قريتى (بدين) ومن مدينتى (المنصورة). وكانت الرحلة بالقطار مع والدى مليئة بالنقاش بين المُسافرين حول «حركة الجيش»، التى كانت قد وقعت فجر ذلك اليوم، من حيث أسبابها، وما يُمكن أن تؤدى إليه.
وما هو إلا منتصف يوم ٢٦ يوليو، حتى فاجأنا صوت المُذيع جلال معو&oslaوّض، يقرأ بصوت وقور، ولكنه حاد، إنذاراً من حركة الجيش إلى الملك فاروق، يُطالبه بالتخلى عن العرش، لنجله، ولى العهد، الأمير أحمد فؤاد الثانى، وأن يُغادر البلاد، فى موعد أقصاه الساعة السادسة، من مساء نفس اليوم. ومع نشرة أخبار الثانية والنصف، علمنا أن الملك فاروق، قد وافق على طلب الجيش، وأنه سيُغادر على ظهر يخته الملكى، «المحروسة»، من «قصر رأس التين العامر».
فى عصر ذلك اليوم خرجت مع عمى وأولاده وأصدقائهم، إلى كورنيش الإسكندرية، وسرنا عدة كيلومترات إلى قُرب قصر رأس التين... وانتظرنا نُراقب، بإمعان وتطلع وإثارة، حتى رأينا عن بُعد، أسرة الملك وحاشيته، تُغادر القصر أولاً، وتصعد إلى اليخت الملكى. ثم فى السادسة وخمس دقائق، رأينا الملك فاروق، فى زى البحرية الملكية .. يتوجه إلى نفس اليخت.. ثم سمعنا بداية الإحدى وعشرين طلقة، فى توديع الملك.. ومع الطلقة الأخيرة انفجر تصفيقنا.. وهتافنا «يحيا الجيش مع الشعب»
وخلال الأيام والأسابيع والشهور التالية، كنت أتابع مع أقراني، ومع من يكبرونى عُمراً، أخبار «حركة الجيش»، التى تحوّلت تدريجياً إلى «الحركة المُباركة»، ثم خلال العام التالى تخلى «الضباط الأحرار» عن النظام الملكى، وحوّلوا حُكم البلاد إلى النظام «الجمهورى»، واختاروا كبيرهم، وهو اللواء محمد نجيب، رئيس مجلس قيادة الثورة، ليكون رئيساً انتقالياً للجمهورية، إلى أن تنتهى فترة السنوات الثلاث الانتقالية. ومع قُرب نهاية الفترة الانتقالية، نشب صراع بين الضباط الأحرار أنفسهم. فقد أصرّ محمد نجيب أكبرهم، وخالد مُحيى الدين، أصغرهم، على احترام الوعد الذى قطعوه للشعب، بعودة الجيش إلى ثكناته، وتسليم السُلطة لحكومة مدنية، مُنتخبة ديمقراطياً، طبقاً للدستور المؤقت. بينما كان من رأى جمال عبد الناصر، ومعه أغلبية أعضاء مجلس قيادة الثورة (أحد عشر ضابطاً يُمثلون فروع القوات المُسلحة)، أن تمتد الفترة الانتقالية عدة سنوات إضافية.
كان واضحاً مع ذلك الوقت (مارس ١٩٥٤) أن أغلبية الضباط الأحرار استمرأوا السُلطة، واكتشفوا أن مُمارستها أسهل مما كانوا يعتقدون، وكانت الصفقة، أن يُصدروا دستوراً، ويتقاعدوا من القوات المُسلحة، ويتحولوا إلى مدنيين، ويُمارسوا السياسة كمدنيين. وهو ما كان حيث عقدت انتخابات، وترشّح جمال عبد الناصر، مُنفرداً لرئاسة الجمهورية.. وبدأ مسلسل الانتخابات الصورية، الفوز بنسبة ٩٩.٩%!
مع ذلك الوقت (١٩٥٥)، أصبحت حركة الجيش المُباركة تُسمى «ثورة يوليو». وللأمانة والإنصاف، حققت ثورة يوليو فى سنواتها العشر الأولى (١٩٥٢-١٩٦٢) عدة إنجازات مُبهرة: تحديد الملكية، والإصلاح الزراعى، وإلغاء الألقاب المدنية (مثل أفندى، وبك، وباشا)، وتمصير المصالح الأجنبية، وإجبار المُحتلين الإنجليز على الجلاء عن آخر معاقله فى منطقة قناة السويس، ثم تأميم هذه الشركة نفسها (يوليو ١٩٥٦)، لاستخدام إيراداتها فى بناء السد العالى، وهو ما عرّض مصر لعدوان ثلاثى من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل بداية من أكتوبر ١٩٥٦. وكان صمود الشعب والقيادة لهذا العدوان، هو بداية المرحلة «الكاريزمية» (الإلهامية) لعبد الناصر، وتعميد الجماهير، داخل وخارج مصر، له زعيماً شعبياً عربياً. وهو الأمر الذى ضخّم من «الذات الناصرية»، خاصة بعد اتفاق سريع وغير مدروس، لوحدة اندماجية بين مصر وسوريا.. وبدأت الأخطاء القاتلة لعبد الناصر، مصرياً وعربياً. وقد تفاقمت هذه الأخطاء إلى أقصاها وأسوأها فى هزيمة عربية مروعة على يد إسرائيل، فى يونيه ١٩٦٧.
وكانت تلك الهزيمة، والتى سُميت «نكسة» بواسطة النظام الناصرى، حدثاً كاشفاً للعفن والفساد الذى أصاب جوانب عديدة من مؤسسات المجتمع والدولة، والذى بدى لكثير من المُخضرمين أضعاف ما كانوا يأخذونه على النظام الملكى الذى ثار عليه «الضباط الأحرار»، قبل خمسة عشر عاماً (١٩٥٢-١٩٦٧).
من ذلك أنه حتى هزيمة العرب الأولى، بما فيهم مصر، فى أول حرب مع إسرائيل، استغرقت المعارك فيها عدة شهور (١٥ مايو ١٩٤٨ – ٢٠ فبراير ١٩٤٩)، بينما الهزيمة عام ١٩٦٧ لم تستغرق إلا ستة أيام. ولذلك سُميت بحرب الأيام الستة. ولذلك أيضاً، شعر عبد الناصر نفسه بمسؤوليته عن تلك الهزيمة، فسارع بمُخاطبة الشعب المصرى على شاشات التليفزيون، وقدم استقالته. وخرجت مُظاهرات عارمة إلى شوارع المُدن المصرية والعربية، رافضة استقالة عبد الناصر، ومُطالبة إياه بالبقاء فى موقع القيادة، «لإزالة آثار العدوان».
وبعد أكثر من نصف قرن من إلغاء الملكية فى مصر، أنتج التليفزيون السورى مسلسلاً درامياً عن الملك فاروق، أذيعت حلقاته خلال شهر رمضان، حيث تتضاعف المُشاهدة التليفزيونية. وكان جديراً بالمُلاحظة الإقبال الأشد على ذلك المسلسل من البُلدان العربية التى كانت ملكية مثل العراق وليبيا وتونس واليمن والجزائر وتحوّلت إلى جمهوريات بعد الاستقلال، أو على أيدى انقلابات عسكرية مُشابهة لما حدث فى مصر.
وفى جولاتى فى البُلدان العربية قرب الفترة التى أذيع فيها مسلسل الملك فاروق، كان الناس يُبادرون بفتح الموضوع، إما للتعبير عن استحسانهم لتلك الحقبة من التاريخ المصرى الحديث (١٩١٩-١٩٥٢)، أو لدهشتهم كيف كانت القاهرة والإسكندرية تبدو جميلة ونظيفة، وكيف كانت السيدات المصريات، أنيقات ومحتشمات رغم أنهن غير مُحجبات.
أكثر من ذلك، كيف بدت للمُشاهدين العرب، سُلطة الملك التى كانت مُحدّدة، وغير مُطلقة، وكيف كان عليه أن يُقنع رئيس الوزراء، وأن يُناور سياسياً حينما يُريد أمراً شخصياً أو عائلياً أو سياسياً. نعم كان دستور ١٩٢٣ قد جعل من نظام الحُكم بعد ثورة ١٩١٩، «ملكية دستورية» (Constitutional Monarchy). وهو نظام يملك فيه رأس الدولة رمزياً، ولكنه لا يحكم تنفيذياً. فهذه الأخيرة هى من سُلطة رئيس وزراء ووزراء منتخبين دورياً، أسوة بمجالس برلمانية (مجلس نواب وشيوخ) تتنافس على عضويتها الأحزاب السياسية.
وفى آخر التقارير السنوية «لبيت الحُرية»، Freedom House الذى يصنف كل دول العالم على مقياس من ثلاث درجات: حُرة، نصف حُرة، وغير حُرة، كانت هناك فقط سبعة بُلدان عربية صنّفها بيت الحُرية «كنصف حُرة»، وهى المغرب، والأردن، ولبنان، والكويت، والبحرين، والعراق، وفلسطين.
وهذا يعنى أن ثلثى البُلدان العربية طبقاً لبيت الحُرية، هى بُلدان «غير حُرة»، وحتى الثلث الأخير، هو «نصف حُر».
فإذا تصفحنا هذا الثلث الأخير نجد أن مُعظمه ذو «أنظمة مالية» وهى المغرب والأردن والكويت والبحرين. وفقط ثلاثة بُلدان ذات أنظمة جمهورية وهى لبنان والعراق وفلسطين.
فإذا أضفنا مؤشرات أخرى مثل الاختفاء القسرى، والتعذيب، والأحكام العُرفية، لوجدنا تقريباً نفس الخريطة، مُعظم البُلدان العربية تحتل أسوأ المواقع، وأن القلة القليلة المعقولة، هى فى مُعظمها بُلدان ذات أنظمة ملكية أو أميرية. وهو ما يحتاج تأملات القرّاء الكرام. فإلى أن أسمع منهم، فإننى أترحم على ملوكنا الذين قُتلوا، أو عُزلوا، أو توفاهم الله وفاة طبيعية. فلو عرفنا من سيأتى بعدهم من المُستبدين، لكنا قد حميناهم وحافظنا على أنظمتهم.
والله أعلم